الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد الشعراوي في الآية: قال رحمه الله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}.ولقائل أن يقول: إذا كان الناس أمة واحدة، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول: لابد أن تحمل هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} سورة يونس.لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلام الله بجماع تفكيره، وأن يكون القرآن كله حاضرا في ذهنك، ويخدم بعضه بعضا. {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين}. فقبل بعث الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم، وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه، وعلم آدم أبناءه منهج الله، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم، فالعالم كان واسعًا، وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولاده فقط، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا. إذن لا تطاحن على شيء، ومن يريد شيئًا يأخذه، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا، ومن يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمرا من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد.والمثال على ذلك في حياتنا اليومية، هناك رب الأسرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقالًا ويتركها أمام أولاده، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا حرج، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقالًا واحدًا فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط. إذن كان الناس أمة واحدة، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون. إذن فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى. وكان من المفروض في آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده وأن يتقبل أبناؤه المنهج، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج، ونشأ حب الاستئثار من ضيق المستأثر والمنتفع به، ومن هنا نشأت الخلافات. ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} سورة المائدة.ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود، حواء تلد توأمين في كل مرة، وأراد آدم أن يزاوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعا أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو أخوه. لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت، واعتبر أن البعد هو بعد البطن، أي أن الذي يولد مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه، أما الذي ولد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون، وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها.روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه. وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانا فقر هابيل جذعه سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: {إنما يتقبل الله من المتقين}. إذن، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما، وكان هذا مثالا واضحا لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الأطماع.{كان الناس أمة واحدة} لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع، وأصبح لكل إنسان هوى. ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجا دائما إلى أن تقوم الساعة لفعل. لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة، ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل. ولذلك يأتي قول الحق: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}. ومهمة التبشير والإنذار هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة ونارًا، ولذلك يبشر كل رسول من آمن من قومه بالجنة، وينذر من كفر من هؤلاء القوم بالنار. ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} سورة الأعراف.يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك: ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة، فظل المنهج مطبقا بين بني آدم. وبعد ذلك تعددت الأهواء، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن الاستئثار بالمنافع، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير، فنشأ حب الذات، ولما كانت المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك. ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق. وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب، وتجدها متوافرة، عند ذلك لا توجد أزمة، لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس، فيتكالب الناس على الاستئثار بها. وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد، وتكون دون الأطماع هنا تتولد المشكلات.ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا. {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات} فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف. {من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه. ومادام كل منا يريد أن يأخذ غير حقه فلابد أن ينشأ البغض.{فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} أي أن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبذلك يظل المنهج سائدًا إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله، وتنشأ الأهواء، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم للدنيا كافة، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة. هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة. وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة.ونعرف أن من مميزاته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء بحق، ولن تجد في الموكب الرسالي رسولا أوكل له الله أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب الله إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد أعطى الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التفويض في أن يشرع عن الله؛ في ظل عصمة الله له فقد قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} من الآية [7 سورة الحشر].إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لأن ما يأمرهم به فيه الصلاح والخير، وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما ينهي عن الأمور التي ليس فيها خير لأمة المسلمين. ويأمر الحق جل وعلا جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها من طاعة الله، فيقول جل وعلا: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} سورة النساء.وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومن يعرض عن طاعته فله العقاب في الآخرة. ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} سورة آل عمران.هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذن فقد فوض الله رسوله أن يشرع للبشر. وهو عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى. وميزة أخرى لأمة المسلمين هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا حق الاجتهاد في المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ولا من السنة، أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من معنى، ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمن أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن تصل بالاجتهاد لما يحسم أي خلاف، وأن أي اختلاف لن يصل إلى الجوهر. فلو علم الله أزلا أننا سوف نختلف اختلافا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلًا.ونحن نجد كل الاختلافات بين طوائف المسلمين لا تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة. ومعنى ذلك أننا لن نترك الأصل، ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى رسول الله ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه. وهؤلاء مأواهم النار؛ لأنهم نطقوا بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية، أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الأحاديث المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو لا؟ إذن فحصافة الاجتهاد والرأي عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج. وأن الخلاف فيما بينهم لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة، ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا الأمور التي تكون من غير معطيات القرآن، ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن.إن عليهم ألا يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم- حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به- وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قد أمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن وعلى رسالة الإسلام، والقرآن ورسالة الإسلام لن يصيبها التغيير أو التحريف، وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة، فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة زمنية أو أن يجئ بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا الإنسان.فنحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم، كما شاء بالماء حياة المادة، والماء حتى يظل ماء فلابد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فإذا أردت أن تجعل له طعما خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيرا أو غير ذلك، وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تصان الحياة، فإذا رأيت دينًا قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام. وكل جامعة تريد أن تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض مدين للأزهر الشريف. ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا، وفي الوقت نفسه لا نجد واحدًا يكره أبا بكر وعمر، وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة.{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً} من الآية [138 سورة البقرة].فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التي أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين. وبذلك نحقق قول الله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية، وحين ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والمعنى الثاني هو المعونة.وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطي لك شيئًا من المعونة، بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان الذي تريد. فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟ إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى، وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه. وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} سورة فصلت.بعضنا يتعجب متسائلا: كيف يقول سبحانه: إنه هداهم، ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول: إن {هداهم} جاءت هنا بمعنى دلهم لكنهم استحبوا العمى على الهدى، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه. ونحن نسمع بعض الناس يقولون: مادام الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذي لم يهتد؟ نقول: إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى الهداية، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر. ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية، وأثبتها له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد. قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} من الآية [56 سورة القصص].والحق يذكر للرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في موضع آخر فيقول له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} من الآية [52 سورة الشورى].ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، فهو يهدي أي يدل الناس على طريق الخير. وهناك هداية أخرى معنوية، وهي من الله ولا دخل للرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وهي هداية المعونة. إذن قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} معناها: أنك تدل على الصراط المستقيم، ولكن الله هو الذي يعين على هذه الهداية. {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} فعلينا أن نستحضر الآيات التي شاء الله أن يهدي فيها مؤمنا وألا يهدي آخر. ويقول الحق سبحانه: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} من الآية [264 سورة البقرة].معنى ذلك أن الله لا يهدي إلا الذين آمنوا به. وهدايته للمؤمنين تكون معونتهم على الاستمرار في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة. والحق يقول في ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} سورة التوبة.إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء الخير والجنة، وهو الذي جاءته هداية الدلالة فاتبعها، فجاءته هداية المعونة من الله. وبين ذلك الذي يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم، إنه الذي جاءته هداية الدلالة فتجاهلها، فلم تصله هداية المعونة، ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين. والحق تبارك وتعالى يقول: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} سورة التوبة.إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر فلن يغفر الله لهم، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله، والله لا يهدي مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله.وبعد ذلك يقول الحق: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)}. اهـ.
|